المحكم والمتشابه في القرآن الكريم - الفروق وأمثلة من الآيات

30 March 2025
آيه أحمد
المحكم  والمتشابه في القرآن الكريم - الفروق وأمثلة من الآيات

القرآن الكريم هو الكتاب الذي أنزله الله ليكون هداية للناس ونورًا يضيء لهم طريق الحق، وقد جاء هذا الكتاب العظيم بأسلوب معجز في ألفاظه ومعانيه، فجمع بين الإحكام والإتقان من جهة، والتشابه والترابط من جهة أخرى، ليكون مصدرًا لا ينضب للفهم والتدبر.

فقد قسم الله آياته إلى المحكم والمتشابه في القرآن الكريم، حيث جعل المحكمات أم الكتاب، وهي التي تحمل دلالات واضحة لا لبس فيها، بينما جاءت المتشابهات لاختبار العقول ومدى التمسك بالهدي الإلهي.

وهذا التنوع في أسلوب القرآن يبرز حكمته في التشريع والتوجيه، ويؤكد أنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.


تعريف المحكم والمتشابه لغة واصطلاحًا 

يعد فهم المحكم والمتشابه من المسائل الأساسية في علوم القرآن وأصول الفقه، حيث يرتبطان بكيفية إدراك معاني النصوص الشرعية والتعامل معها، وقد ورد تقسيم الآيات إلى محكمات ومتشابهات في قوله تعالى:"هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ" (آل عمران: 7).

فالمحكم هو الواضح في دلالته، الذي لا يلتبس معناه، أما المتشابه فهو الذي يحتاج إلى تأويل لفهم مراده. وهذا التمييز ضروري لتفسير النصوص واستنباط الأحكام الشرعية.

 سنوضح تعريف المحكم والمتشابه من الناحيتين اللغوية والاصطلاحية، مع بيان الفروق بينهما وأثرهما في فهم الشريعة.

 تعريف المحكم

أ. المعنى اللغوي

المحكم هو اسم مفعول من "الإحكام"، ويعني في اللغة المنع والإتقان، ويستخدم في عدة معانٍ متقاربة تدل جميعها على إحكام الشيء ومنعه من الاختلال أو التغيير.


ب. المعنى الاصطلاحي

يُطلق مصطلح المحكم في الشريعة الإسلامية على معنيين:

ما يقابل المنسوخ

 أي الحكم الشرعي الذي لم يطرأ عليه النسخ، فهو ثابت ومستمر العمل به.

ما يقابل المتشابه

 ويُراد به النصوص الشرعية ، سواء من القرآن أو السنة التي تكون دلالتها واضحة لا تحتمل الالتباس أو الغموض.

وموضوع درسنا هنا يركز على المعنى الثاني، وهو المحكم في مقابل المتشابه، حيث سبق أن تناولنا النسخ وأدلته وأحكامه في دروس سابقة.


تعريف المتشابه

أ. المعنى اللغوي

يقال تشابه الأمران أو اشتبها، أي صار كل منهما شبيهًا بالآخر إلى حدّ الالتباس. كما يقال: أمور مشتبهة أو مشبهة (على وزن معظَّمة)، أي أمور مشكلة يصعب تمييزها بوضوح.

بناءً على ذلك، فإن المتشابه في اللغة يشير إلى وجود اشتراك في الصفات والمماثلة بين الأشياء، مما يؤدي إلى صعوبة التفريق بينها أو حدوث التباس في فهمها. ومنه قول الله تعالى في وصف رزق الجنة:

"كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا" (البقرة: 25).

وهذا يعني أن ثمار الجنة تتشابه في الشكل، لكنها تختلف في الطعم.


ب. المعنى الاصطلاحي 

المتشابه في الاصطلاح يُعرَّف بأنه ما كانت دلالته غير واضحة، بحيث يحتاج إلى تفسير وبيان لتحديد معناه. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المتشابه هو ما لا يستقل بفهمه وحده، بل يتطلب توضيحًا وإيضاحًا من مصادر أخرى، وإلا لبقي غامضًا. 

ومع ذلك، ورد في القرآن الكريم ما يشير إلى أنه كله محكم، كما قال الله سبحانه وتعالى: "كتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثم فُصِّلَتْ من لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ" (هود: 1).


الفرق بين المحكم والمتشابه 

أفضل ما قيل في تفسير المحكم والمتشابه في القرآن الكريم، أن المحكم هو ما كان واضح المعنى لا لبس فيه، أما المتشابه فهو ما خفي معناه على بعض العلماء. 

والواجب عند تفسير القرآن أن يُردَّ المتشابه إلى المحكم، وألا يُفسَّر المتشابه بطريقة تخالف ما هو محكم، كما حذّر النبي ﷺ من الذين يتبعون المتشابه، فقال:"إذا رأيتُم الذين يتَّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم".

بناءً على ذلك، فإن المحكم يشمل الآيات التي لا تحتمل إلا معنى واحدًا واضحًا، مثل آيات الصلاة، وتحريم المحرمات، والأوامر الشرعية الصريحة.

 أما الآيات المتشابهة، فهي التي قد تحتمل أكثر من تفسير أو يخفى معناها على بعض الناس، ولذلك يجب ردّها إلى المحكمات لضمان الفهم الصحيح.

القرآن الكريم لا يتناقض، بل يصدق بعضه بعضًا، لذا فإن العلماء يجب أن يعتمدوا على المحكم في تفسير المتشابه، سواء في القرآن أو في السنة النبوية، حتى يكون التفسير متسقًا مع أصول الدين وثوابته.


المحكم والمتشابه عند الأصوليين

ذكر الله تعالى في كتابه العزيز أن القرآن كله محكم، كما في قوله: ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1].

وفي موضع آخر، وصفه بأنه كله متشابه، حيث قال تعالى:﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23].

كما أوضح القرآن أن بعض آياته محكمات وأخرى متشابهات، فقال الله تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7].

القرآن الكريم لا يتناقض، بل يفسر بعضه بعضًا، وللتوفيق بين هذه الآيات الثلاث، يمكن توضيح مفهوم الإحكام والتشابه من خلال معنيين، كالتالي:

  1. الإحكام والتشابه العام
  • عندما تصف الآية الأولى القرآن كله بأنه محكم، فذلك يشير إلى كونه كتابًا متقنًا في ألفاظه ومعانيه، لا خلل فيه ولا تناقض.
  • وعندما تصفه الآية الثانية بأنه متشابه، فالمقصود أن جميع آياته متناسقة ومتوافقة، لا اختلاف بينها، وكلها تدل على الحق.


2. الإحكام والتشابه الخاص

  • الآية الثالثة تُبيّن أن القرآن ينقسم إلى آيات محكمات، وهي التي تحمل معاني واضحة لا تحتمل التأويل المتعدد، وآيات متشابهات، وهي التي قد تحتمل أكثر من تفسير أو يخفى معناها على بعض الناس.
  • الإحكام الخاص يعني وضوح المعنى، بينما التشابه الخاص يعني احتمال المعاني أو خفاء الحقيقة الكاملة عن البشر.


أمثلة على المحكم والمتشابه من القرآن 

القرآن الكريم هو كلام الله المعجز الذي أنزله هداية للبشر، وجاءت آياته على نوعين المحكم والمتشابه في القرآن الكريم.

 فالمحكمات هي الآيات الواضحة الدلالة التي لا تحتمل أكثر من معنى، مثل آيات العقيدة والعبادات والأحكام الشرعية، أما المتشابهات، فهي الآيات التي قد يخفى معناها أو تحتمل أكثر من تأويل، مثل الحروف المقطعة في أوائل السور وبعض صفات الله.


أولًا: أمثلة على الآيات المحكمة

الآيات المحكمة هي التي تحمل معاني واضحة، لا تقبل التبديل أو التأويل المتعدد، ومنها:

  1. نصوص العقيدة والتوحيد
  • تشمل الآيات التي تؤكد الإيمان بالله وتوحيده، والتي لا تحتمل التأويل أو الاجتهاد.
  • مثال: قوله تعالى: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ۞ اللَّهُ الصَّمَدُ ۞ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ۞ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ" (الإخلاص: 1-4).


2. الأوامر الإلهية بالفضائل والنواهي عن الرذائل:

  • تشمل الآيات التي تأمر بأعمال البر والإحسان، مثل بر الوالدين، وصلة الأرحام، والعدل، والصدق، وتحريم الظلم والعدوان.
  • أمثلة:
  • قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ" (التوبة: 119).
  • قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" (النحل: 90).


3. القواعد الشرعية الكبرى

  • مثل قاعدة رفع الحرج، ومنع الضرر، واعتبار المقاصد في الأحكام الشرعية.
  • مثال: قوله تعالى: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" (البقرة: 286).


4. الأحكام الشرعية التفصيلية

  • مثل تحريم الزواج من زوجات النبي بعد وفاته، وحدود العقوبات الشرعية.
  • أمثلة:
  • قوله تعالى: "وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا" (الأحزاب: 53).
  • قوله تعالى: "وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (النور: 4).


ثانيًا: أمثلة على الآيات المتشابهة

الآيات المتشابهة هي التي قد تحتمل أكثر من تفسير، أو التي لا يُدرك معناها إلا الله، ومنها:

1. الحروف المقطعة في أوائل السور

  • تُعتبر من المتشابه لأن تفسيرها الحقيقي لا يعلمه إلا الله.
  • أمثلة:
  • قوله تعالى: "الم" (البقرة: 1).
  • قوله تعالى: "كهيعص" (مريم: 1).


2. صفات الله التي لا نُدرك كيفيتها

  • أثبت الله لنفسه صفات مثل السمع والبصر والاستواء، لكن كيفية هذه الصفات لا يعلمها إلا الله.
  • أمثلة:
  • قوله تعالى: "وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" (الشورى: 11).
  • قوله تعالى: "ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا" (الفرقان: 59).


3. الآيات المتعلقة بالغيب والمستقبل

  • بعض الآيات تتحدث عن أمور غيبية لا يعلمها إلا الله، مثل موعد يوم القيامة.
  • مثال: قوله تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيَهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ" (الأعراف: 187).


وهكذا يتجلى لنا إعجاز القرآن الكريم في مزجه بين المحكم والمتشابه، حيث جعل المحكمات أساس الدين، والمتشابهات اختبارًا للقلوب والعقول، ليزداد المؤمنون يقينًا ويظهر صدق اتباعهم لكلام الله. 

فلا تعارض بين المحكم والمتشابه في القرآن الكريم ، بل كلاهما يشكلان لوحة متكاملة تعكس روعة البيان الإلهي، لذا، فلنجعل القرآن نبراسًا نهتدي به، ومرجعًا نعود إليه، فبه الحياة الحقيقية، وبه النجاة في الدنيا والآخرة.